أسلوب تربوي ( الاستثمار الممنهج)
على المعلم أن يستثمر وقت وطاقات المتعلمين بين يديه؛ كي لا تذهب هدرا، وهذا الاستثمار يجب أن يكون ممنهجا لا عشوائيا، فلا يمكن استثمار وقت وطاقة الطفل بالأسلوب الذي يستثمر فيه وقت وطاقة الشاب، وهكذا بالنسبة للفتيات ، فلكل صنف أعماله الخاصة التي تنسجم مع روحيته وتوجهاته وتطلعاته، فإذا لم تستثمر هذه الجهود والطاقات في العمل الموجة تتجه تلقائيا إلى أعمال عشوائية قد تؤدي في نتائجها إلى ما لا يحمد عقباه.
وقد وضع الإسلام منهجا متكاملا لهذه الطريقة، فمثلا في الأطفال أوصى أمير المؤمنين على بن أبى طالب بتربيتهم واستثمار طاقاتهم وأوقاتهم وفقا لزمانهم ، حيث قال : "لا تقسروا أولدكم على أخلاقكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"، فإجبارهم على نوع معين من العمل وتفريغ الوقت والجهد فيه، قد يؤدي إلى نتائج عكسية تماما.وكذلك بالنسبة للكبار فقد وضع الإسلام منهاجا للطاقة وللوقت، وركز عليها، فلا يحق لأحد أن يستثمر طاقاته في أمور غير مشروعة لا تتماشى مع أهدافه وطموحاته.
متطلبات طريقة الاستثمار الممنهج:
- منهجًا متوازنًا يطابق المعايير الوطنية ومتوائمًا مع أعمار الطلبة ، يجعل من البيئة الصفية مكانًا محفزًا وآمنا للتعليم والتعلم.
- بيئة تشجع المعلمين على استغلال أقصى طاقات المتعلمين بمنهج يحفز على التفكير الإبداعي والتفكير الناقد والعصف الذهني مما يساعد على تحقيق أعلى معايير الأداء.
- بيئة تساعد على تشجيع الطلاب وتنمية مواهبهم لإعداد جيل قادر على متطلبات التعليم في مراحله المختلفة
- الاستفادة واستثمار العنصر البشري عن طريق تعاون المعلمين مع بعضهم البعض في شرح بعض الدروس.
- إشراك أولياء الأمور في تعليم أبنائهم عندما يكون لولي الأمر قدرة على ذلك، فاستثمر طاقة ولي الأمر كلاً حسب تخصصه .
تأصيل أسلوب الاستثمار الممنهج في العملية التربوية:
لقد أعطت التربية الإسلامية اهتمامها كبيرا بتفعيل نشاط المتعلم في العملية التعليمية بالقدر المتناسب مع طبيعية المعرفة وكيفية الحصول عليها , وعززته في العملية التعليمية بوسائل مختلفة من بينها الأمر بالتفكر والتدبر , وإعمال العقل بالنظر في ملكوت الله سبحانه وتعالى ليصل للمعرفة الحقة بالله سبحانه وتعالى , وأسرار الكون , وخصائص النفس وعوامل رقيها في الحياة الدنيا والآخرة وفق حدود تتوافق مع القدرات العقلية للإنسان كما تتوافق مع طبيعة المعارف . فالله سبحانه وتعالى وجه العقل الإنساني لمجالات التدبر والتفكر التي تعين عقله على فهم الوجود والاستدلال على رب موجود أوجد فأبدع , فلم يدعه في ظلمات تتبدد فيها قواه بل ربى أفقه العقلي الذي يشتاق به لتفتيق أنوار المعارف بأن اسند إليه الوصول للمعرفة وفق الاستدلال والاستنتاج بالنظر العقلي والتفكر والتدبر كي تتحقق المعرفة في ذات المتعلم باقتناع عقلي وفهم قوي يعزز فيه الثبات العلمي والعملي
قال الله تعالى :(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(العنكبوت:20)
فإدراك الإنسان لقدرة الله ومعرفته الحقة لها تتجلى بصحة النظر في خلقه والاستدلال بإتقانه على قدرته التامة الكاملة , والإنسان وفق هذا العمل العقلي يصل لإدراك المعارف بنفسه وفق توجيه الله سبحانه وتعالى وهو بذلك يشترك ويتفاعل مع المعارف مما يجعله نشط في تعلمه وتحصيله المعرفي .
وإيمانا من النبي صلى الله عليه وسلم بأهمية تفعيل نشاط المتعلم في العملية المعرفية نجده يولي جهده في إشراك المتعلم في التعلم والتعليم بإسناد بيان العلم وتوضيحه للمتعلمين من قبل أحدهما كما وقع في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أصول تعبير علم الرؤى ، فعن ابن عباس قال : كان يحدث أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم فالمستكثر والمستقل وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلا قال أبو بكر يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فلأعبرنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعبرها . قال أبو بكر أما الظلة فظله الإسلام وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته ولينه وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله به ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصبت بعضا وأخطأت بعضا قال فو الله يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأت قال : لا تقسم
فالرسول في هذا الموقف صلى الله عليه وسلم لم ينهر أبي بكر بطلبه استباق المعلم ببيان العلم الذي أنار قلبه بعمل عقله ؛ لعلمه صلى الله عليه وسلم بأهمية إتاحة الفرصة للمتعلمين في الوصول للمعارف , وأن استئثار المعلم ببيان العلم يضعف قوى المتعلم العلمية والعقلية
والأمثلة الواردة في تفعيل التربية الإسلامية لنشاط المتعلم وإشراكه في عملية اكتساب المعرفة وإنتاجها جزء يسير من منهج عظيم من تفعيل نشاط المتعلم في العملية التربوية الإسلامية وحقيقة أن التربية والتعليم عملية مزدوجة النشاط بين عناصرها بشكل يحقق قيام كل عنصر بدوره الفعال , فنشاط المتعلم ركيزة أساسية لثبات العملية التعليمية وتطبيقها وتفعيلها في حياة المتعلم , والمعلم الماهر الذي يحسن تنشيط المتعلم بأساليب وطرق مختلفة تتباين تبعا لتباين قدرات المتعلمين وتبعا لتباين أنواع المعرفة التي تفرض اختلاف في طرق اكتسابها
الاستثمار الممنهج ونظرية برونر:
وهذا الأسلوب التربوي نجده متعمقا في فكر برونر ، حيث يرى أن لكل فرد طاقة داخلية للتعلم، وأن علينا تجهيز وإثراء البيئة المحيطة بهذا المتعلم بكافة المواد والأشياء التي تعينه على استثمار هذه الطاقة الداخلية في تعلمه والذي يمكن أن يكون على شكل خبرات حسية مباشرة يتعرض لها المتعلم خاصة في مراحل تعلمه الأولى. ويركز برونر على تفاعل المتعلم مع الأشياء الموجودة من حوله في عملية تعلمه, فهو بهذا يركز بشكل غير مباشر على الطريقة الاستكشافية للتعلم, وهي ما تعني أن يتوصل المتعلم بنفسه للمعارف والمعلومات التي يحتاجها بمساعدة وتوجيه المعلم, ولعل التعلم بهذه الطريقة – طريقة الاستكشاف - هي من أبرز الأفكار الموجودة لديه, خاصة أنه لا يركز على النتيجة المكتشفة, بل يهتم بشكل كبير بالعمليات العقلية والأفعال التي يقوم بها المتعلم والتي أدت به إلى هذه النتيجة، وهذا ما يزيد الأمر روعة وجمالًا.
وقد نادى برونر بضرورة وجود نظرية في مجال التعليم تتكامل مع نظريات التعلم، وتعمل على رفع كفاءة العملية التعليمية كمًا وكيفًا من خلال تتبع الأسس والخطوات اللازمة لتقديم المادة التعليمية للمتعلمين بصورة مناسبة.
أهداف أسلوب الاستثمار الممنهج:
لأسلوب الاستثمار الممنهج لطاقات وجهد المتعلمين واستغلال أوقاتهم وتوجيها الوجهة الصحيحة في العملية التربوية جملة من الأهداف ، يمكن إجمالها فيما يلي :
- تنمية حب العمل والتعاون مع الغير.
-التربية على تحمل المسؤولية وتقديرها.
-التربية على ضبط نوازع النفس.
-التمكن من التعبير على خوالج النفس.
-التربية على التحكم في الاندفاعية كلما التزم مع غيره في العمل أو من خلال التحاور أو التواصل أو نسج علاقات إيجابية مع الغير.
-التربية على حب العمل وتقديره بواقعية دون مبالغة أو تضخيم.
-القدرة على التخطيط والانضباط مع التزامات العمل.
-التربية على الاستثمار الفاعل للوقت وحسن تدبيره وترشيده.
-تجنب الجنوح ودعم شخصيته لتكون سوية إيجابية.
-احترام القواعد والضوابط التي تسنها الجماعة، تمهيدا لاحترام قوانين المجتمع وضوابطه المختلفة تيسيرا للاندماج فيه والتعلق به.
- مساعدة المتعلم في تعلم كيفية تتبع الدلائل وتسجيل النتائج وبذا يتمكن من التعامل مع المشكلات الجديدة.
- توفير فرصا عديدة للمتعلم للتوصل إلى استدلالات باستخدام التفكير المنطقي سواء الاستقرائي أو الاستنباطي.
- تشجيع التفكير الناقد والعمل على المستويات العقلية العليا كالتحليل والتركيب والتقييم.
- تعوّيد المتعلم على التخلص من التسليم للغير والتبعية التقليدية.
- تحقيق نشاط المتعلم وإيجابيته في اكتشاف المعلومات مما يساعده على الاحتفاظ بالتعلم.
- مساعدة المتعلم على تنمية الإبداع والابتكار.
- زيادة دافعية المتعلم نحو التعلم بما يوفره هذا الأسلوب التربوي من تشويق وإثارة يشعر بها المتعلم أثناء اكتشافه للمعلومات بنفسه.
............ ............ ............ ............
المراجع :
- مسلم بن حجاج النيسابوري . صحيح مسلم , ت: محمد فؤاد عبد الباقي , دار الإحياء , بيروت , ج4: ص1777
- العمود الفقري لنجاح العملية التعليمية وثباتها في عقل المتعلم نشاط المتعلم .. بقلم/ أ. إيمان بنت زكي أسرة
- " طرق وأساليب التربية في الإسلام" ، متاح على
http://www.balagh.com/mosoa/tarbiah/mt08xsf4.htm
مع تحيات
دكتور / وحيد حامد عبد الرشيد – كلية التربية بالوادي الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق